طابو البكارة، اليوم وفي ديارنا نحن (10) باستيل البكارة لم يهدم بعد؟
إنّ هذا الحكم الصّادر باسم الجمهوريّة الفرنسيّة العلمانيّة يمكن أن يعتبر نكوصا خطيرا عن التّراكم الحداثيّ التّاريخيّ لفرنسا لأنّه يمثّل عودة إلى النّظام القضائيّ الذي يتّسع فيه مجال السّلطات الشّخصانيّة التّقديريّة للقاضي، وكأنّ القاضي يمتلك سلطة التّشريع، بإيجاد نماذج قانونيّة ليس لها وجود في المدوّنة، وبتجريمه ما لا يجرّمه القانون، وإباحة ما لا يبيحه. فهذا الحكم يذكّرنا بالنّظام القديم، عندما كانت المحاكم في فرنسا، وفي واقعة مماثلة قد تصدر أحكاما مختلفة مبنيّة على هذه السّلطات التّقديريّة الواسعة. هذا ما حصل مثلا في مأساة محاكمة آل كالاس في منتصف القرن الثّامن عشر، وقد كانت علامة على أعلى ما وصل إليه انحطاط الأحكام القضائيّة في ذلك العصر. وقد ألّف فيها فولتير كتاب “رسالة في التّسامح بمناسبة محاكمة جان كالاس”.
ولكنّ هذا الحكم الصّادر عن محكمة ليل ليس خطأ قانونيّا قضائيّا فحسب، بل هو سقوط أخلاقيّ بالدّرجة الأولى. فالزّواج عقد لكنّه ذو طبيعة خاصّة. فمن حيث هو عقد له أركان وشروط، وهو ينعدم إذا انعدم ركن من أركانه. ولكنّ القاضي الفرنسيّ اعتبر هذا العقد قائما على التّراضي، وموضوعه جسد المرأة، فاعتبر أنّ غشاء البكارة جزء من موضوع العقد، وهو جسد المرأة، واعتبره شيئا من الأهمّيّة بحيث يثبت عدم وجوده غشّا في البضاعة (جسد المرأة)، ممّا يلزم إبطال العقد أو فسخه. وبعبارة أخرى فإنّ نيّة المشتري قد أصابها خلل نتيجة إخفاء “البائع” وهي المرأة عنصرا أساسيّا من عناصر جسدها.
يقول محامي المدّعي إنّ الزّوج أقدم على هذا الارتباط تحت تأثير خطإ موضوعيّ وهو يستند إلى سابقة في القضاء الفرنسيّ تمّ فيها إلغاء عقد زواج لأنّ الزّوجة اكتشفت أنّ زوجها كان سجينا سابقا. ولكنّ هذا القول يتضمّن مغالطة، ذلك أنّ الصّفة التي أخفيت وتمّ إبطال الزّواج بسببها لا تتعلّق بكينونة الشّخص، بل بسلوك إجراميّ صدر عن فعل أو امتناع يعاقب عليه القانون.
وعن طريق هذا القياس يجب على البرلمان الفرنسيّ منطقيّا أن يصدر قانونا يجرّم الأنثى التي تفقد بكارتها من غير وطء شرعيّ، بلغة الشّريعة الإسلاميّة. ولا بأس من ذلك في عصر العولمة النّكوصيّة.
إنّ القضاء الفرنسيّ بهذا الحكم قد وضع المنظومة القانونيّة والأخلاقيّة في فرنسا في وضع بائس. فإذا استمرّت هذه الأخطاء الفادحة في الممارسة القضائيّة، ربّما آل الأمر بالقانون الفرنسيّ إلى أن لا يطبّق على كلّ الفرنسيّين، بل أن يطبّق أحكاما مختلفة باختلاف الدّين والجنس وربّما اللّون… وهذا ما يضحّي بفكرة المواطنة وبمبدإ تطبيق القانون على الجميع بغضّ النّظر عن الفروقات فيما بين المواطنين.
إنّ هذه الحادثة ليست هذه الأولى من نوعها في فرنسا. فقد لاحظنا أنّ الدّولة الفرنسيّة ذهبت بعيدا في الممايزة بين مواطنيها، والدّليل على ذلك إغماض العين القانونيّة عن المسلمين الذين يتزوّجون بأكثر من امرأة واحدة، بينما يطال العقاب الفرنسيّ من أصول أوروبّيّة إذا فعل ذلك. وإذا استمرّ هذا الاختراق لقوانين الجمهوريّة الفرنسيّة ولمنجزات الحداثة، فإنّنا سوف نكون في حاجة إلى أنوار أخرى في أوروبّا نفسها، وسنعتبر أنّ مرحلة الأنوار لم تنجز بعد.