متوسط المشترك الثقافي أم “يوطوبيا” نقاء الهويات القاتل ؟
إلى سحر وجع “الفادو” في صوت “أماليا رودريغيز Amalia Rodriguez ”
يتحوّل ذلك النفي إلى أزمة ضمير حقيقية كلما أثبت البحث بالدليل القاطع تهافت القائمين على تلك “اليوطوبيا”، مبرهنا عن حضور روافد عربية إسلامية لتك “الثقافة النقية”.
لا يخفى ما لهذا الضرب من الصنعة الشعرية من رقش باللفظ لمعاني التصّوف الذوقيّ، فالحبّ الناجم عن جمال “الأماريد” هو كناية عن المحبّة الصوفية المنسلخة عن كينونتها المنصهرة في الجمال الخالص، حيث علّة الوجود وسبب كل موجود.
يستحضر “نيكوماك” ضمن تصوراته الأرتميتيقية فكرة الجوهرة Monade محاولا المزج بين خصوصياتها الطبيعية المتمثلِة في فرادتها الأصيلة المشكِلة للكون، معتبرا أنها جوهر الذات والكائن غير الفارق جنسيا Hermaphrodite وإله المادة. إنها الإناء الكونيّ الجامع الذي يحوي الانهيار والظلمة والهوة والبشاعة وشدّة الانعزال والنسيان، كما يتضمن الشمس والنار المقدسة وذلاقة لسان الآلهة من “زوس Zeus” إلى “أبولون Apollon “.
ولأنه حاو لمختلف العناصر الأصلية، فإنه قد توفّر أيضا على رموز تجربة السلوك نحو المطلق، تلك التي تشكلت في غابر الأزمنة مُمثِلة رديفا لفكرة وحدة الوجود ذات الأصول الثقافية الهندو-أوروبية، وهي فكرة أعاد التصوّف الإسلاميّ المنسوب إلى ابن عربي تملّكها بعد اطلاعه على النظريات المشكلة لكُنْه الأفلاطونية الجديدة.
نهلت النصرانية من ذات النبع مسهبة الحديث عن محاذير تجربة السلوك والترقي تجسيما للوصل والتشابك روحا وجسدا مع المعشوق. ويبرز ذلك جلياّ في الموشّح الأندلسيّ كما في “الأهازيج البروفنسالية” وفي قصائد الحب المضمّخة بروائح الورد الفرنسية وفي مقطوعات “الموسيقى البتراركية” وفي “حلم بوليفيل” ومقاطع أشعار “رولان” المسجوعة الموشاة وحتى في “مواقف كيشوت الهزلية”.
ينحصر غرض هذه الأجناس على تنوعها الظاهريّ في توصيف مشاقّ الوَلَهِ تحقيقا لعلّة الوجود. وحدها عبقرية الشعر وإلهام الشاعر بستطيعان أن يعرضا علينا مأساة فاجعة في كساء براق خاطف للّبّ مُفقد للصواب، ليس للمحبّ حظّ ضمنه في تجاوز محاذير السلوك إذا لم تسعفه “المحبّة الجنونية المقدّسة”، فالجنون مرقاة الشاعر والمتصوّف معا إلى الإلهام و”المَـدَدِ” منذ “هوميروس”.
التوحّد مع اللا محدّد عقلا لا يمكن أن يستجلبه غير جموح الرغبة وأزف الروح المهووس حتى الجنون في الحب الخالص للجمال. لا تحتاج تجربة العاشق، مثلما هو شأن أبطال “كوميديا دانتي”، إلى رؤية خالص الجمال تمتيعا للنظر، بل إنّ حاجة الروح المعذّبة المنفيّة إلى الانصهار في بؤرة الضوء وخالص النور، هي ما يُسعف جنون المجبّة في شد المهجة واسترقاق الوجدان.
ذاك ما خلص إليه “ميكال أنجلو Michel-Ange” الذي اعتبر أنّ ما نُصيبه من متعة التشابك مع الآخرين هو عين الحاجز الذي يحول بيننا وبين التوحّد الذي لا يرضى بغير العزلة الـمُفضية إلى السكينة ثمنا. وهو عين ما ابتغاه “الحلاج” لمّا أسلم الروح شهيدا متشوّفا إلى الفناء في مطلق الجمال الناجم عن حرارة الإيمان. وهو ما عناه “جيوردانو برينو” أيضا عندما تساءل في مؤلف “الجنون البطوليّ” عن السبب الكامن وراء “توجّه الفراشة نحو بؤرة الضّوء الساطع عير عابئة بمغبّة هلاكها بألسنة اللهب”.
تتساءل “سيكادا Cicada ” بطلة مؤلف “جيوردانو برينو” عن الحاجة إلى مبادئ عقل أرسطو، فيجيبها “تانسيو Tansillo” بأنها مظنَّة لمن مُنع القدرة، على غرار “هوميروس” و”هزيود” و”أورفي”، في الانقلاب شاعرا دون الحاجة إلى عقل أرسطو، وهي تمحّك العقيم لـمّا تعوزه الحيلة في استجلاب آلهة الإلهام، فيكتفي بعشق مُلْهِمَة “هوميروس”.
عاقبت الكنيسة المسيحية الإيطاليّ “جيوردانو برينو” حرقا عن “جريرته” الإبداعية في موفّى القرن السادس عشر، غير أنها عجزت في بداية القرن العشرين في الحدّ من انتشار النتائج المربكة التي أفضت إليها أبحاث الإسبانيّ “أثين بالاثيوسAsin Palacios ” الفيلولوجية المنشورة سنة 1919 حول تأثير “الإسكاتولوجيا” الإسلامية في “كوميديا دانتي الإلهية” ووقفت مشدوهة سنة 1922 أمام حُجج “خوليان ريبيرا Julian Ribera” بخصوص تأثير مقامات الموسيقى الأندلسية في تشكيل أناشيد “الكنتيغاس Cantigas ” الدينية المنسوخة بعناية فائقة على رقّ أشهر مخطوطات كتب الإنشاد الدينيّ المسيحيّ المنسوب تأليفها إلى الملك “ألفونش العاشر Alphonse X ” أو “ألفونش الحكيم”، تلك الأناشيد التي عايش “دانتي أليغيري Dante Alighieri ” فترة اجتراحها.